أرسل لي عمي صورًا من الشفق القطبي في هولندا وسألني لماذا هذه المرة الأولى التي يشاهد فيها الشفق بعد ثلاثين سنة من عيشه هناك. فعادةً، لا نرى هذه الظاهرة إلا عند اقترابنا من أقطاب الأرض الشمالية والجنوبية. لكن هذه المرة تجلّت في أوروبا وولايات أمريكا الجنوبية، فما الذي اختلف هذه المرة؟ وما هو الشفق القطبي أصلا؟

الشفق القطبي ظاهرة بصرية في شمال الأرض (في الدول الاسكندنافية وألاسكا وسايبيريا) وجنوب الأرض (في أستراليا ونيوزيلندا، وتشيلي والأرجنتين، وجنوب أفريقيا). فيها ألوان بين الأخضر والبنفسجي وأحياناً الأحمر، لها سمك وامتداد وتعرجات كأنها شرائط قماشية معلقة. ما نراه هو نتيجة تفاعل أشعة معينة من الشمس مع أغلفة الأرض.
تنتج النجوم نوعين من الأشعة: بصرية تتكون من الضوء المرئي وأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء وموجات كهرومغناطيسية عالية التردد (مثل الأشعة السينية وأشعة غاما) ومنخفضة التردد (مثل الراديو والمايكرويف)، كما تنتج جسيمات أولية (تتكون من الإلكترونات وأنوية ذرات الهايدروجين والهيليوم، والعديد من الجسيمات الأخرى) نسميها الأشعة الكونية. شمسنا نجمة اعتيادية في الكون، وتنتج غالب إشعاعها الذي يصل لنا كضوء مرئي، بينما يرد غلافنا الجوي معظم الأشعة الكونية والموجات ذات الطاقات العليا الناتجة من نشاط الشمس. فيجب أن نهتم بصحة غلافنا الجوي لأنه يحمينا من هذه الأشعة المسرطنة (أو المؤينة في الفيزياء والعلوم الطبية).
ولكن الغلاف الجوي موزع على كل الأرض، والشمس تنتج هذه الأشعة كل ثانية، فلماذا لا نرى يوميًا الشفق في هولندا أو الكويت كما بدا في الجمعة الفائتة؟ الإجابة تتعلق بالرياح والعواصف الشمسية ومجال الأرض المغناطيسي.

تعتبر الشمس كرة غازية عملاقة تدمج ذرات الهايدروجين نوويًا لتنتج العناصر الخفيفة، من الهيليوم إلى الحديد. بسبب كتلتها الجسيمة، تقترب ذرات الهايدروجين بفعل قوة الجاذبية، ومن الاحتكاكات التي تحصل يتحول غاز الهايدروجين لحالة رابعة من المادة نسميها بلازما حيث تفقد الذرات شحنة كهربائية سالبة وتصبح آيونات. ويجبر الضغط هذه الآيونات أن تتكدس بأماكن ضيقة جدًا فتشعر بقوى نووية تدمجها لتكون الهيليوم، ومن ثم الكربون والنايتروجين والأوكسجين، إلى أن تصل للحديد، فتستقر النجمة لبلايين السنين قبل أن تستهلك مخزونها الهايدروجيني وتنتقل لطور آخر من حياتها. وتتكون الشمس من عدة طبقات، معظم ما يصلنا منها يأتي من طبقاتها الخارجية. وتنتج الشمس فائضًا من الإشعاع بشكل دوري، ما نسميه بالرياح الشمسية. وحين تزداد كمية الرياح نرى عواصف الشمسية أقل ندرةً ولكنها دورية أيضًا. تنتقل الأشعة الكهرومغناطيسية (الضوء) والكونية (الجسيمات) إلى الأرض وتتفاعل مع الغلاف الجوي.
كوكب الأرض بويضة عملاقة في الفضاء، والبويضة هي كرة مضغوطة من جانبين مقابلين: يشكل كل جانب أحد الأقطاب. والكواكب لا تنتج تفاعلات نووية لعدم احتوائها على كتلة كافية وما يكفي من ذرات الهايدروجين. (ونعتبر المشتري نجمة فاشلة، لأنها تحتاج المزيد من الكثافة الهايدروجينية لتصبح نجمة.) وما يميز الكواكب الصخرية مثل الأرض والمريخ عن الغازية مثل زحل والمشتري هو لب يتكون من الحديد والنيكل (كلاهما من المعادن المغناطيسية بدرجة حرارة الغرفة). يعتقد العلماء أن اللب الداخلي للأرض صلب، بينما الخارجي سائل ويتكون من نفس المعدنين، وتساهم حركة اللب الخارجي في إنتاج المجال المغناطيسي للأرض.
ينتج عن المجال المغناطيسي دوران الشحنات المتحركة، وهذا نراه في تقوسات شرائط الشفق القطبي. حين تتفاعل الأشعة الضوئية والكونية مع غلافنا الجوي، فهي تتفاعل مع شيئين: الغازات في الغلاف الجوي العلوي للأرض، ومجال الأرض المغناطيسي. تفاعلها مع الغازات يعطي ذرات الغاز طاقة استثارة، والتي تتخلص منها بانبعاثات ’راحة‘ ملونة، وهي نفس آلية الليزر والأنوار الفسفورية. والتواء الشفق ينتج عن تباين سرعات الأشعة الكونية وهي تحت تأثير مجال الأرض المغناطيسي، ويستخدم الفيزيائيون هذه الظاهرة في المختبر لمعرفة كتل وطاقات الذرات (بعد تأيينها) والجسيمات الأولية.

يتضح الشفق عند أقطاب الأرض الشمالية والجنوبية لأن المجال المغناطيسي هناك منخفض بالمقارنة ببقية المناطق، فتقترب الأشعة أكثر ليزداد تفاعلها. ما حصل الجمعة الفائتة (10 من مايو، 2024)، واستمر لعدة أيام، ظاهرة طبيعية ومعتادة، وتشتد الإنبعاثات الشمسية بدورية يمكن التنبؤ بها. يطرد مجال الأرض المغناطيسي معظم الأشعة الكونية، ويتفاعل ما يتبقى منها مع طبقة عالية من الغلاف الجوي (الغلاف الآيوني ionosphere)، وبالتالي لا تصل لسطح الأرض إلا بكميات مهملة. حين تشتد العواصف الشمسية، تزداد الكمية التي تتفاعل مع أعلى طبقات الغلاف الجوي (الغلاف المغناطيسي magnetosphere) فتصدر تلك الأنوار القطبية التي نراها في أوروبا وأمريكا. لولا شدة العاصفة العالية نسبيًا لما رأينا الشفق في مناطق أدنى من أقطاب الأرض، ولو ازدادت شدته أكثر من ذلك لرأيناه في الكويت، ولكن آثار الأشعة ستكون مدمرة للأجهزة الكهربائية والأقمار الصناعية!
طمأنت عمي بأن ما يحصل طبيعي ولن يضره، لأن كثافة الغلاف الجوي تزداد كلما اقتربنا من سطح الأرض، فتتلاشى الأشعة. تؤثر الأشعة الكونية على من يسافرون جوًا بكثرة لاقترابهم من طبقات الجو العليا، ولكن حتى هذا الأثر ضئيل إلا على من يسافرون بكثرة مثل طاقم الطائرة. ولهذا السبب، تحذر منظمة ’مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها‘ الأمريكية هذه الفئة من السفر بكثرة في الجولات الطويلة أو التي تعبر أقطاب الأرض. أما فوائدها، فهي كالمختبر لعلماء الفيزياء والجيولوجيا، يدرسون بها الأرض وهذه الأشعة؛ وهي متعة للناظرين مثلنا، فلنستمتع.
نشرت هذه المقالة لأول مرة في جريدة القبس، بتاريخ 14 من مايو، 2024. وساعدني في التعديل كلًا من مبارك كمال ومحمد العبيدي، جزاهما الله كل الخير.