حلقة عن الرجل النملة.

ما كتبته في 2018 كان سيصبح حلقة تعرضها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ولكن المشروع لم يكتمل. سألوني عن رأيي كخريج فيزياء أن أتحدث عن الفيلم، ولم يكن لدي الكثير من الوقت حيث أني كنت أحضر لمؤتمؤ سألقي فيه محاضرة في بيروت، فشاهدت الفيلم مع أخي غازي قبل السفر وكتبته هناك، وهذه محاور الحلقة التي أعددتها.


في الماضي, كنا نعتقد بأن الأجسام في الكون كلها متصلة, أو متواصلة: فمثلاً, عندما تمرر اصبعك على الطاولة, تحس بأنها شيء واحد, بأنها مادة واحدة, بأنها جسم واحد. تستطيع أن تواصل تمرير صبعك على الطاولة من دون أن ترفعها واصبعك دائماً يلامس الطاولة.

اتضح لنا في بداية القرن العشرين أن هذا غير صحيح. فاكتشفنا ان المواد في الكون تتكون من اجسام صغيرة تسمى ذرات, وهذه الذرات منفصلة عن بعضها البعض, فالطاولة هذه التي مررت اصبعك عليها, أو حتى الكرسي الذي تجلس عليه, يتكون من ترلايين الذرات (1,000,000,000,000), أو حتى آلاف الترلايين الذرات (1,000,000,000,000,000( وكل ذرة منفصلة عن الأخرى, وبينها وبين الأخرى مسافة معينة. وهذه الذرات, وهذه المسافات بينها هي من تخلق أحجام الأجسام التي هي في الكون.

هناك تجربة بسيطة أود من الجميع فعلها. ضع سبابتك على إبهامك, ولفها بسرعة! ستجد أن ابهامك (او سبابتك) بلا ملامح. والآن, حاول أن تحرك سبابتك ببطء؟ ماذا تلاحظ؟ وكأن هناك خطوط بارزة, صحيح؟

كل الأجسام التي نحس بأنها متصلة (كلاسيكية), هي بالواقع منفصلة (كمومية). ولكن الفراغات بينها صغييييييييرة جداً لدرجة أننا لا نحس فيها. هذا الشعور مشابه لشعور السيارة وهي تمشي على القار. فالقار ليس سطح متساوٍ, ولكن نشعر بأنه متساوٍ لأن عجلات السيارة سميكة: وهكذا, أصابعنا سميكة ولذلك لا نشعر بأنها متفرقة ومنفصلة ولكن عندما نرى أي شيء تحت المجهر, نحس بأن التفاصيل صارت أكثر.

في فلم الرجل النملة, نرى إستخدام لهذه الفكرة العلمية. فقد اخترع العالم (فلان آل علان…) بذلة يقلص بها الفراغات هذه بين ذرات أجسادنا لتصبح أحجامنا صغيرة. بحجم النمل. وأيضاً, هناك خاصية بهذه البذلة بوسع مرتديها أنه يتقلص حتى لأحجام الذرات وما دونها أيضاً. وعندما يفعل ذلك ليخترق بذلة خصمه, يرى الذرات وهي أشكالاً ووحداناً مزخرفة تدور حول نفسها كما تدور الأرض حول نفسها, ومن ثم يخرج من هذا العالم, أو كما تسمى دار الكم: The quantum realm.

وهذا الإختراع ليس بلا غرض, ففي الفيلم ذاته, تود الشركة أن توظف فيزياء الكم لمآربها في الجيش, وعادةً ما نرى هذه الأشياء في الواقع, فمع تطور التكنلوجيا, تتطور الأسلحة. وهذا الجانب المؤسف من العلم, أو من أي شيء بالواقع, أن له استخدامات سيئة. واستخدامات الأشياء تأتي وفقاً لمستخدمها, وليس فقط على حسب طريقة اكتشافها أو تفسير من ابتدع الطريقة, أو أو أو.

وهذه كلها أفكار علمية رائعة في الفلم, لولا عدة مشاكل, سنطرحها فيما يلي, ومن ثم نواجه الحلول الأخلاقية التي نستطيع أن نستفيد من العلم بها.

1.
الذرات في المواد الصالبة في حالة اهتزاز دائمة. ولذلك الفراغات بينها ليست أماكن شاغرة وحسب, بل أن الذرة تتحرك إليها لمدات زمنية معينة وهي تهتز. ونستطيع أن نتخيل اهتزازة الذرة كاهتزازة الـspring. هذه الإهتزازات هي نوع من أنواع تفريغ طاقتها لتتحول الطاقة الحركية (وهي الطاقة التي يمتلكها الجسم المتحرك) لطاقة حرارية (وهي الطاقة التي تضيع مع الحركة, وتشعرنا بالدفء). ولذلك, إذا قلصنا الذرات بأي طريقة كانت, سترجع لأحجامها الأساسية بسبب طبيعة تحركها, ولأن الحرارة المولدة ستزداد, والحرارة كما نعرف تكبر أحجام المواد الصلبة.

2.
في فيزياء الكم, لا شيء له حجم. فالذرات لا حجم لها. نعلم أنها صغيرة, لأنها تتفاعل مع المجال الكهربائي الضعيف (والمجال الكهربائي هو مجال افتراضي, تخيل شبكة عنكبوت, يحرك أي جسم مشحون كهربائياً عليه بقوة معينة على حسب شحنة الجسم. يعني مثلاً, لو حكيت شعرك بمشط بلاستيكي, ثم قربت المشط من قصاصة ورقية قصيرة, ستنجذب جراءً لذلك المجال الكهربائي—القصاصة ستتحرك وفقاً للقوة التي تشعر بها بسبب هذا المجال المغناطيسي). وأيضاً, نعرف أن الذرات صغيرة لأن هناك العديد والعديد منها حتى في أصغر الأجسام التي نراها. بالتالي, نستطيع أن نقول بأن الذرة صغيرة, ولكن من المستحيل أن نحدد حجمها بشكل دقيق. وهذا بسبب مبدأ تجريبي (أي, شيء نكتشفه من التجارب العلمية) يسمى مبدأ عدم اليقين لهايزنبرق.

3.
نستطيع أن نتخيل بأن كل الذرات لها أشكال, ولكن الذرات لا شكل لها. وهذا شيء غريب جداً, ولكن ذلك لسببين. أولاً, لأن إذا كان للذرات, أو أي من الأجسام الكمومية (أي, الأجسام الصغيرة والمنفصلة عن بعضها كما شرحنا سابقاً), شكل معين, وتدور بطريقة معينة, فسرعة دورانها حول نفسها سيكون أكبر من سرعة الضوء. وهذا شيء لم نلحظه ولا مرة في تاريخ الإنسانية. سرعة الضوء ثابتة, ولا تضاهيها أي سرعة أخرى في الكون, لدرجة أننا نؤمن بها كحقيقة من غير دليل. وهذا النوع من الإيمانيات تسمى أوليات, ومعنى هذا أن هي أشياء نؤمن بها لكي نبني عليها أشياء أخرى نستطيع أن نبحث فيها ونثبتها أو ندحضها. هذه من أوليات نظرية تسمى النظرية النسبية الخاصة لآينستاين. والسبب الآخر ذكرناه في (2). فالأشكال في العالم تتكون من ثلاثة أبعاد, الطول والعرض, والإرتفاع. وإذا تحددت أي من الأطوال الثلاثة هذه نكون قد وافقنا على شيء من المستحيل أن نراه في المختبر..

4.
كل شيء ينزل لعالم الكم, نستطيع أن نتصور بأنه يتفاعل مع بقية الأشياء كأنه جسم كمومي. وكما يقول المثل, عندما تكون في روما, تصرف كأنما الروميين. وعندما يتقلص لهذا الحجم من أين يأتي بكل هذه الطاقة ليرجع لحجمه الطبيعي (من غير أن يستهلك طاقة شاسعة من محيطه)؟ سأسمع أجوبتكم في هذه.

برأيي, من أسمى غايات العلوم أنها تعلمنا كيف نستطيع أن نتعامل مع العالم بثقة. فهذه الثقة التي نكتسبها من العلوم تسمح لنا أن نركب الطائرة من دون خوف شديد. وتسمح لنا أن نتعامل مع الكهرباء بطريقة مفيدة. ولذا, أول شيء يجب أن يكون في بالنا قبل البحث عن أي فكرة علمية هي, هل نستطيع استخدامها لخدمة الإنسانية؟

لا بأس في أن نستمتع بفيلم فيه أفكار أخذناها من العلوم, ولكن الأهم دوماً هو أن نفكر فيها بسياق ونطاق علمي. وأن نرى ما هي الأفكار المقدمة والمطروحة في هذا الفلم لكي نفكر فيها أكثر, ونرى ما عواقب هذه القوانين الموجودة في الفلم, ونعممها للعالم والكون من حولنا. وهذا ما يميز أفلام الخيال العلمي عن بقية الأفلام, أنها تضع صورة للعالم فيه شيء مختلف (عادةً بتطبيق فكرة علمية), وترى كيف سيتغير هذا العالم بسبب التغيير الطفيف هذا. ولهذه متعة عظيمة, والمتعة العظيمة تبدأ بعد الفيلم, عندما نفكر فعلاً بقوانين عالمنا هذا.

ومن الأشياء التي حفزت فكرت الفيلم هذا هي تكنولوجيا النانو, ونستطيع أن نرى تقارب كبير بين فكرة هذا الفيلم, وتكنولوجيا النانو. فقد تكون هذه التكنولوجيا هي من تجعل الإنسانية في أسمى وأرقى وأفضل حالاتها, وتستطيع أن تخلق لنا كوابيس تدعى بالgrey-goo.

وشكراً على إستماعكم.

Beirut, Lebanon,
November, 2018.

Leave a comment