الفساد والإصلاح في السياسة.


إذا أردت أن تساعد الناس، فقل لهم الحقيقة. أما لو أردت أن تساعد نفسك، فقل لهم ما يودون سماعه.

توماس سول.

المدخل:

لا يخلو أي مجتمع في العالم من المشاكل، ولكل مجتمع مشاكله الخاصة التي يتفرد بها. ولكن أغلب مشاكل أي مجتمع هي مشاكل عالمية تعاني منها كل مجتمعات، لأنها متجذرة في طبيعة الإنسان. فتعاني كل المجتمعات من جرائم القتل غير أن هذه المشكلة موجودة بكمية أكبر في مجتمعات معينة دون غيرها، حيث أن أكبر معدلات القتل في العالم نجدها في المكسيك وفنزويلا والبرازيل [1]، ولكنها، حتى لو كانت مشكلة كبيرة في الكويت، موجودة بكميات أقل بكثير. أما السمنة فهي من المشاكل الكبيرة في الكويت، ونجدها في الكويت أكثر بكثير مما نجدها في المكسيك حتى لو كانت عالية هناك [2]. ومن طبيعة المجتمعات البشرية أنها تنتبه للظواهر التي تتزايد أعدادها فتضع لها الحلول. فإما أن تكون الحلول اجتماعية أو اقتصادية أو علمية، أو أنها تكون سياسية.

والآلية السياسية تختلف اختلافًا كبيرًا عن الآليات الأخرى في أنها تفرض حلولها على الجميع، وبالإكراه، فلا يستطيع أن يرفضها أحد حتى لو لم اقتنع بجدواها أو قابلية تطبيقها، ويظل ملزومًا بمتطلباتها. وقد يتصور البعض بأن هذه الحلول المبنية على الإكراه ضرورية لأننا تفرض على الجميع ما لا يمكن أن نجد القبول الكلي بها — فالدولة إما أن تدخل بحرب أم لا، بغض النظر عن ضرورة دخولنا بالحرب، ولكننا في حال دخلنا في حرب ما سيتأثر كل فرد في الدولة. إلا أن محاولاتنا في حل أي مشكلة غير معصومة عن الخطأ لأنها من نتاج البشر الذين بأنفسهم غير معصومين عن الخطأ — بخلاف ما ادعى به روسو، حين قال بأن المجتمعات التي تتبع ’الرغبة العامة‘ لا يمكنها أن تخطئ[3]. والحلول السياسية، كبقية الحلول، قد لا تصل للنتيجة التي نسعى لها، كما نجد في مثال ظاهرة الكوبرا [4]. أو أنها تبدل المشكلة المراد حلها لمشكلة أخرى قد نعي بها لاحقًا، كما هو الحال في محاولة إبدال الدهون في أغذيتنا لكربوهيدرات لخفض نسبة أمراض القلب [5].

          ومن المؤسف أننا أصبحنا، حين نرى أي مشكلة، أن نطالب بحلول سياسية لتلك المشاكل بدلًا عن البحث عن الحلول بكل الوسائل واستعمال الوسائل السياسية كحل أخير في حال أن فشلت بقية الوسائل. (وربما يشير فشل بقية الوسائل إلى أن المشكلة لا يمكن حلها.) فالوسائل السياسية بذاتها مشكلة حيث أن من يمتلك المنصب الذي يمكن من خلاله حل المشكلات يستطيع أن يستعمل نفس المنصب لتحقيق أهدافه الخاصة. وقد يوهم الشعب بأنه يسعى لحل مشاكلهم في حين أنه يختار المجموعات المعينة التي تواجه نفس مشكلته ليضخمها إعلاميًا ويسعى، كالمنقذ، لحلها بينما يوجه الموارد المحتكرة من قبل الدولة لتحقيق مطالبه الشخصية.

الفساد:

أحد مشاكل الحلول السياسية أنها تفرض على الأفراد حلول قد تعرقل حلولهم لمشاكلهم الخاصة. فلو عرقلت حل فرد ما، سيطلب من الحل السياسي على الأقل أن يعالج مشكلته ولكن السياسي لا يرى بأنه ملزوم بحل مشكلة أي فرد لو لم يلقى المطالبة الواسعة بهذا الحل لكي يتم انتخابه. فكل موظف في أي مؤسسة يسعى لتحقيق أهدافه، فتأمل المؤسسات أن تتوافق أهداف الموظف مع أهداف المؤسسة. والسياسي لا يختلف عن الموظف ههنا: فهو يسعى لأهدافه الخاصة مهما نادى بمطالب فضفاضة مثل ’المصلحة العامة‘ أو ’إرادة الشعب.‘ سيستخدم السياسي أدوات الدولة لتحقيق غاياته لطالما أقنع الشعب بأن مطالبه هي مطالبهم.

          ويمكن تعريف الفساد بأنه سوء استخدام السلطة. ولكن لو فكرنا بالتعريف قليلاً نستطيع أن نسأل أنفسنا إن كان هناك استخدام صحيح للسلطة، فربما لا توجد أي حالة ممكن أن نكره غيرنا عليها بشكل أخلاقي. وربما يكون الإكراه هذا مصدر لمشاكل أكبر مما كنا نعاني منها. فحاولت كل الدول الاشتراكية أن تمارس هذا الإكراه على شعبها لإنهاء استغلال الطبقة البرجوازية للطبقة البروليتارية وما نتج عن ذلك هو أن السياسيين أصبحوا الطبقة البرجوازية وتنافس الجميع على تلك المناصب السياسية من دون الوصول للحلول المرجوة.

          فالفاسد يستعمل صلاحياته السياسية لأهدافه الخاصة، لا لأهداف الشعب أو للمصلحة العامة. وهذا يجعلنا أن نسأل أنفسنا مرة أخرى، هل توجد ’مصلحة عامة‘ أو ’أهداف للشعب‘ بمعزل عن هدف كل فرد ومصلحة كل فرد، والتي بدورها تتضارب مع بعضها البعض؟ فما الذي يسعى إليه السياسي؟ في هذه الحالة، وتحت ظل لخبطتنا بهذه المصطلحات، للسياسي حافز قوي أن يفعل ما يريده أو أن يفيد مجموعة من الأفراد بطريقة تفيده. لأنه يعرف أن لا ’حل‘ يرضي الجميع، وأنه لا يمكن أن يأمر الناس بأن تطبق حلوله دون مخالفتهم لأوامره لتحقيق أهدافهم الخاصة. الحل السياسي يؤدي للفساد بالضرورة، لأن الحل السياسي لا يمكنه أن يحل المشاكل التي يسعى لحلها المجتمع فإما أن يعتبر الشعب ذلك السياسي ليس الشخص المناسب للدور أو أن يضع ذلك السياسي حلًا فاشلًا يبدو خطأه سابقًا (أثناء فترته) أم لاحقًا (بعد انتهاء فترته).

الإصلاح:

والإصلاح السياسي الذي تطالب به الشعوب يود أن يبدل سياسي بآخر، أو أدوات سياسية بأخرى، دون تغيير حقيقي لآلية حل المشاكل. فمن يود أن يصلح سيبدل الآلية السياسية بآلية اجتماعية أو اقتصادية، أو حتى بآلية علمية — غير أن هذه الآليات لا تعمل دائمًا كما هو متوقع لمحدودية قدرات البشر في كل مكان. وفي ظل هذه الفجوة، يأتي السياسي ليعدنا بالحلول لمشاكلنا من خلال خلق أو توظيف المؤسسات الحكومية والخاصة لمواجهتها.

          والسبب وراء فشل محاولات الإصلاح هو أنها تختلف عن آلية السوق الضرورية في خروج من يفشل من السوق وإكمال المنافسة إلى أن نصل للحلول. (وما أقصده بالحلول هنا هي تلك التبديلات بين أشكال المشاكل القديمة التي لا يمكننا مواجهتها لأشكال حديثة يسعنا أن نواجهها.) فالإصلاح السياسي قصير الأمد لأنه لا ينظر للمشكلة الأصلية: وهي أن الآليات التي نستعملها لمعالجة المشاكل فاسدة بأصلها وتستهلك موارد أكثر مما نستطيع أن نتحمله في المجتمع. فالسياسي الذي يفشل في حل المشكلة يبدل بسياسي آخر يستطيع أن يوهمنا بأنه حل المشكلة في حين أنه أبدل شكل المشكلة بشكل آخر سنتفاجئ بمشكلاته لاحقًا. والمؤسسات الحكومية التي تفشل تبدل بمؤسسات أخرى ستفشل بدورها. المشكلات لا يمكن ’حلها.‘ ما يسعنا فعله هو إبدال شكل المشكلة بشكل آخر نتحمل مواجهته. التطور التكنولوجي يسمح لنا أن نفعل ذلك، والتطور التنظيمي يسهل علينا استهلاك الموارد العمّالية والزمنية بشكل أفضل. وفي السوق، من لا يستطيع أن يساعد الأفراد على مواجهة مشاكلهم وتوفير السلع والخدمات لهم بأفضل شكل ممكن سيتلقى الخسائر التي تجبره أن ينسحب وأن يبيع أصوله للشركات التي تحاول أن تقوم بدور أفضل في ذلك.

          الإصلاح السياسي يستمر على نفس تلك الآلية التي تفشل المرة تلو الأخرى. وهذا يجعل العبارة بنفسها متناقضة، حيث أن هذا النوع من الإصلاح يصبح بذاته فساد.

ما هي السياسة؟

هل للسياسة دور في المجتمع الحر؟ ربما: فنلقى العديد من الفلاسفة يذكروننا بأن بعض المشاكل يجب أن يتم معالجتها من قبل الحكومة. (وزارات الدفاع والداخلية والقانون تعتبر أمثلة يتفق عليها معظم الاقتصاديين والفلاسفة السياسيين، وقد يختلف بعضهم على أن السوق يستطيع أن يوفر خدمات أفضل حتى في هذه القطاعات.) ولكن قبل أن نعرف ما هو دور السياسة لو كان لها دور، يجب أن نفهم ما هي السياسة. فلو كانت الحكومة هي الجهة التي تحتكر استخدام الإكراه لمعالجة المشاكل بشكل قانوني، السياسة هي الآلية التي نستخدم بها الحكومة، وخصوصًا لوضع أو تغيير القوانين أو صلاحيات تلك الحكومة.

          فما نسميه بالحلول السياسية هي أساليب تأتي كأوامر أو نواهي توجه فيها تصرفات الأفراد. وينتج عنها الفساد كما رأينا لأنها تعطي الصلاحيات الكثيرة لأشخاص يستخدمونها لمصالحهم الخاصة دون مصالح الآخرين — وتجذب بالضبط هؤلاء الأشخاص الذين يسعون لأن يعالجوا تلك المشاكل مهما كانت التكلفة [6]. والإصلاح يستحيل تحت هذه الأنظمة لأن الحلول المطروحة هي بالواقع محاولات تستهلك الموارد بشكل أكبر بكثير مما يستطيع أن يقدمه السوق. السياسة هي نتيجة هذين الفكرتين.


Notes:

[1] https://www.statista.com/statistics/243797/ranking-of-the-most-dangerous-cities-in-the-world-by-murder-rate-per-capita/
[2] World Obesity Atlas 2022: https://www.worldobesity.org/resources/resource-library/world-obesity-atlas-2022
[3] Jean-Jacques Rousseau, The Social Contract, Penguin Classics, 1968, pp. 72 – 74.
[4] Siebert, Horst (2001). Der Kobra-Effekt. Wie man Irrwege der Wirtschaftspolitik vermeidet (in German). Munich: Deutsche Verlags-Anstalt.
[5] https://time.com/4046810/dietary-guidelines/
[6] https://fee.org/resources/the-road-to-serfdom-chapter-10-why-the-worst-get-on-top/

Surra,
January, 2023.

Leave a comment